الصفحة:  4-3-2-1

مدخل إلى المناهج الحديثة

من البنيويّة إلى التفكيك

مع نماذج تطبيقيّة

 

عبد الرّزاق السّومري

توطئة

لعلّ أهمّ الإضافات النوعيّة في حقل النقد الأدبي كانت على مستويـين: مستوى معرفي تمثّل في ما حقّقته العلوم الإنسانيّة من تطوّر في مجال علم النّفس و علم الاجتماع و علم التّاريخ إلخ…    و مستوى ثان يتعلّق بفضاء اللّغة ذاتها و المتمثّل في الإنجازات الألسنيّة و ظهور العديد من العلوم المتّصلة بميدان اللّغة و النّقد مثل علم الأصوات : la phonetique و علم وظائف الأصــــوات la phonologie  و علم الصّيغ : la morphologie   و علم الدّلالة : la semantique   و علم التركيب : la syntaxe   و علم النصّ : le textologie …إلخ

هذه التراكمات في ميدان اللّغة هي في ذات الوقت وليدة أزمة معرفيّة حادّة بحث من خلالها طليعو الفكر و الأدب عن نصّ جديد و بنيات ‘‘علاميّة’’ جديدة قادرة على تحمّل ‘‘ مشاقّ المعنى ’’ لذلك أمكن أن نسمّيها : عقليّة البحث عن ماورائيّة اللّغة عبر اللّغة ذاتها أو ما سمّاه ‘‘ موريس بلانشو ’’ ب ‘‘ الكتاية خارج الخطاب ’’ (1)

و قد تختلف المفاهيم و التصوّرات للتعبير عن هذا المأزق لكنّ ربّما

ـــــــــــ

1- Maurice Blanchot : Le livre a venir . Ed. Gallimard 1959  

يتوحّد الهدف من خلال البحث عن أفق نقديّ جديد يتجاوز دائرة النقد القديم إن لم نقل بصفة محدّدة دائرة النقد الانطباعي كما تقنّن مع ‘‘ سانت بوف ’’ و ‘‘ هيبوليت تان ’’ الفرنسيين . و بظهور الألسنيّة انهارت الكثير من القوالب و تجرّدت اللّغة من ميتافيزيقا الغائيّة و الاعتقاد بالمعاني الكامنة خارج الألفاظ لتصبح في النّهاية مجرّد كيان فيزيائيّ لا يختلف في شيء عن بقيّة الأنظمة العلاميّة  الأخرى من حيث قيمتها التواصليّة الأساسيّة ( التمهيد للسّيميولوجيا فيما بعد مع ‘‘ رولان بارت ’’ ) و هكذا ساهمت اللّسانيات في إسقاط طقوسيّة اللّغة و وهم استقلال اللّفظ عن المعنى ( من الأفكار التي جثمت طويلا على النقد العربي بصفة خاصّة ) .

فأوّل انعطافات ‘‘ النّقد الجديد ’’ تمثّلت أوّلا في ردّ الاعتبار للّغة منذ ظهور اللّسانيات مع العالم اللّغوي ‘‘ فردينان دي سوسير ’’ (1) إذ بلور قواعد هذا العلم في كتابه ‘‘ دروس في الألسنيّة العامّة ’’ الصّادر سنة 1916 و صاغ جملة من النّظريات كانت منطلقا هامّا في تأسيس ‘‘ النقد الجديد ’’ في أوروبا و العالم .

حاول ‘‘ سوسير ’’ أن يتجاوز النّحو القديم ( النحو المقارن ) باعتبار

هذا الأخير كما أسّسه اليونان يرتكز على المنطق و يبتعد كلّ البعد عن النّظرة العلميّة للّغة في حدّ ذاتها . و كلّ ما يهتمّ به النحو المقارن

ـــــــــــ

1- Ferdinand de saussure : ( 1857 - 1913 )

هو تقعيد اللّغة و إدراك الخطأ من الصّواب منها أي بصيغة أخرى لم يول علماء النحو القدامى أيّ اهتمام للّغة ككلام و لم يدرسوا الجانب الإجرائي منها داخل الحياة اليوميّة كما يستعملها النّــاس و اكتفوا فقط بالبحث داخل سكونيّة النّظام اللّغوي المتعالي . فالّلغة في الحقيقة لا يبحث عنها في القواعد و القياسات أو المدوّنات (1) بل في أشكال الاستعمال المنطوق أو المكتوب أي البحث عنها داخل سياق التّاريخ . و حتّى الفبلولوجيا  بقيت هي الأخرى تنظر إلى اللّغة كأداة تواصل و تعبير فقط داخل الفعل الأدبي و الفكري فقـط و كما قال ‘‘ سوسير ’’ فهي تقتصر على اللّغة المكتوبة فحســب و تناست اللّغة الحيّة . و السّائد في تلك الفترة كما يوضّحـــه ‘‘ سوسير ’’ هو تعريف اللّغة من قبل الفيلولوجيا بكونها قائمة من الفرائد : Nomenclature التي تتّصل بقائمة من الأشياء الخارجيّة .

 

ـــــــــــ

1- ترجمة لكلمة :  Corpus

الرجوع إلي الصفحة 1

الثّورة الألسنيّة

لعلّ من بين ما أسقطته نظريّات ‘‘ سوسير ’’ أسطورة التفاضل بين اللّغات باعتبار أنّ اللّغة نشاط إنساني فيقول : ‘‘ إنّ مادّة اللّسانيات تتكوّن قبل كلّ شيء من كلّ تمظهرات اللّغة البشريّة ، سواء تلعّق الأمر بشعوب بدائيّة أو بأمم ‘‘متحضّرة ’’ و سواء كان ذلك في حقبات قديمة أو حديثة ، لا نأخذ بعين الاعتبار اللّغة ‘‘الصّحيحة ’’ أو اللّغة ‘‘ الأحسن ’’ بل كلّ أشكال التعبير . ’’ (1)

بعد أن يحدّد ‘‘ سوسير ’’ المنطلقات التي ترتكز عليها اللّسانيات يضبط مهمّتها بدرجة أولى في ثلاث نقاط أساسيّة يمكن اعتبارها في نفس الوقت تعريفا لموضوع علم اللّسانيات :

1-      محاولة ‘‘ وصف ’’ و ‘‘ تأريخ ’’ كلّ اللّغات الممكنة بما فيها العائلات اللّغويّة و إعادة تكوين إن أمكن ‘‘ اللّغات الأمّ ’’ لكلّ عائلة لغويّة .

2-       اكتشاف القوى التي تقف وراء خلود و انتشار بعض اللّغـات و استجلاء القوانين الموضوعيّة العامّة التي تتحكّم في تاريخيّة هذه اللّغات .

.ـــــــــــ

1- Ferdinand de Saussure :Cours de linguistique generale  Paris et Lausane . Payot 1916. P .20                                                                                                                                                             

3-      تحديد و ضبط تعريف للّسانيات لنفسها بنفسها ، فيجب على اللّسانيات أن تعرّف موضوعها و تحدّد منهجها بنفسها و أن تستقلّ عن باقي العلوم الأخرى : علم النّفس الفيزيولوجيا ، الفيلولوجيا و الإتنوغرافيا .

كما حدّد ‘‘ سوسير ’’ الممارسة الكلاميّة باعتبارها تركيبا معقّدا تتظافر على إنتاجه العديد من الظّواهر الفيزيولوجيّة و النفســـيّة و انتهى إلى تعريف العلامة signe) ( بكونها وحدة معقّدة بين الصّورة السمعيّة و المتصوّر :

 Signe = Concept+ Image acoustique)   (

و لم يستعمل ‘‘ سوسير ’’ لفظ الدّال و المدلــــــــول    Signifiant et Signfie  إلاّ في دروسه الأخيرة . و انطلاقا من ثنائيّة : لغة/ كلام ( Langue /Parole) استطاع أن يضبط مهمّة اللّسانيات الحقيقيّة قائلا : ‘‘ إنّ دراسة اللّغة إذا تتضمّن قسمين :

أ – القسم الأساسي الأوّل منها موضوعه اللّغة كظاهرة اجتماعيّة في جوهرها و مستقلّة عن الفرد و هذه الدّراسة هي فيزيائيّة بالأساس .

ب – القسم الثّاني و موضوعه الجانب الفردي من اللّغة أي الكلام متضمّنا التصويت وهي دراسة فيزيانفسيّة (1) ’’

 

شدّد ‘‘ سوسير ’’ إذا على أهميّة الكلام بالنّسبة إلى اللّغة أوّلا لأنّ ممارسة اللّغة ( الكلام ) هو السّبب في تطوّرها . يقول : ‘‘ إنّ الانطباعات التي نتلقّاها من الآخرين هي الّتي تحوّر طبائعنــا اللّسانيّة . ( 2) ’’ و الأهميّة الثّانية  هي أسبقيّة الكلام على اللّغة أي أنّ اللّغة لا يمكنها أن ترسخ بقواعدها و ضوابطها في الذّهن البشري إلاّ بعد تجارب عديدة و الطّفل عادة ما يتدرّب على الكلام دون أن يكون على دراية بضوابط اللّغة .

إنّ ثنائيّة : لغة / كلام هي الّتي مهّدت ل ‘‘ سوسير ’’ وضع المفاهيم الأخرى المتعلّقة ب ‘‘ المنهج الوضعي و المنهج التّاريخي ’’  (3)

Linguistique diachronique / Linguistique synchronique

اللّسانيات ‘‘ السنكرونيّة ’’ تدرس اللّغة بصفة ثابتة في مرحلة تاريخيّة محدّدة أمّا اللّسانيات ‘‘ الدياكرونيّة ’’ فتدرس النّظام اللّغوي متطوّرا داخل سياق التّاريخ و في علاقة بالعوامل التّاريخيّة و الاقتصاديّــة و الدّينيّة و الجغرافيّة .. إلخ

يقول‘‘ سوسير ’’ : ‘‘ إنّ اللّسانيات السنكرونيّة تهتمّ بالعلاقات

ـــــــــ

1 -المرجع السّابق ص 39

2- المرجع السّابق ص 37/39

3- ترجمة الدكتور فؤاد منصور – ‘‘ النقد البنيوي الحديث ’’ دار الجليل – بيروت 1985 ص 36

المنطقيّة و السّيكولوجيّة التي تربط مصطلحات متعايشة و مكوّنة لنظام لغوي محدّد . و تدرك بوعي جماعيّ . (1) ’’

توجّه ‘‘ سوسير ’’ بالنّقد لعلم النّحو القديم و فلسفة اللّغة التي عرّفت اللّغة بوصفها قائمة من الفرائد أو المفردات ( تصوّر يذكّرنا بالمقولة الكانطيّة في اعتقادها بالمعاني الماقبليّة المستقلّة عن الألفاظ ) . يقول‘‘ سوسير’’  : ‘‘ لم يعطنا النحو القديم هل كان الاسم ذا طبيعة صوتيّة أو فيزيائيّة ؛ لأنّ الشّجرة مثلا يمكن تتصوّر بأشكال مختلفة حسب هذه الظّاهرة أو تلك .(2)’’

الفبلولوجيا القديمة اعتبرت الرّابط بين الاسم و المسمّى رابطا مباشرا و بسيطا بينما نجد هذا الرّابط ليس على غاية من البساطة إذا علمنـا و أنّ العلامة في حقل اللّسانيات ليست متكوّنة من : اسم و شيء كما يعتقد ( Chose + Nom )بل من متصوّر و صورة سمعيّة . هذا التعريف يعود بنا إلى التحليل الماركسي لعمليّة الإدراك أو الوعي انطلاقا من فكرة الانعكاس و اللّغة بذلك هي أحد تمظهرات ذلك

ــــــــ

1- Ferdinand de Saussure : Cours de linguistique generale. Page : 140

2- المرجع السّابق : ص 140/150

3- المرجع السّابق : ص 97/100

الانعكاس داخل الذّهن البشري و ما تشمله من تأثّرات نفســـيّة و فيزيولوجيّة . و ‘‘ سوسير ’’ يضع الرّسم التّالي في كتابه مبيّنا العلاقة الجدليّة بين المتصوّر و الصّورة السمعيّة :

يقول : ‘‘ سوسير ’’ : ‘‘ إنّ الخاصيّة النفسيّة لصورنا السمعيّة تظهر أكثر عندما نلاحظ لغتنا الخاصّة . فبدون تحريك الشّفاه و اللّسان يمكن أنم نكلّم أنفسنا أو أن نعيد شفويّا مقطوعة شعريّة . فقط لأنّ الكلمات في اللّغة بالنّسبة لنا هي صور سمعيّة . ( 1 ) ’’

في حقل اللّسانيات لا يمكن أن نحمل اللّغة إلى أشياء خارجيّة عكس النّظريات القديمة التي تقتضي أشياء و مسمّيات جاهزة خارجة عن اللّغة و لربّما قد تنبّه ‘‘ سوسير ’’ إلى فكرة الانعكاس عندما صاغ مثال : ‘‘ القوس قزح ’’ و انتهى إلى الاختلاف بين الشّعوب في تمييز الألوان( الفرنسيون يميّزون بين سبعة ألوان من القوس قزح و في

ــــــــ

1- المرجع السّابق : ص 97/100

زمبيا تميّز اللّغة المحليّة فقط بين ثلاثة ألوان و في ليبيريا يميّزون لونين فقط ) و من خلال المثال استنتج أنّ كلّ لغة تمثّل واقعها و أنّ الأفراد في الحقيقة هم الّذين يفكّكون الوحدات اللّغويّة و يصنّفونها . و لقد تنبّه ‘‘ نوام تشومسكي ’’ إلى هذه الظّاهرة عندما أكّد على أهمّية علم النّفس في توليد اللّغة قائلا : ‘‘ إنّ الشّخص المتكلّم يخترع نسبيّا لغته الخاصّة كلّما عبّر أو يكتشفها من جديد كلّما سمعها من حولــه .  ( 1 ) ’’ 

انطلاقا من هذا التّمييز بين اللّغة و الكلام ينتهي ‘‘ سوسير ’’ إلى التمييز بين محور التوزيع و محور الاســــــــــتبدال ( Axe paradigmatique/Axe syntagmatique )

أو لنقل بكلّ بساطة بين المفرد و المركّب و في حقل التركيب لا تتّخذ الكلمات أهميّة في ذاتها بقدر ما تكتسب قيمتها من الفـوارق و العلاقات التي توحّدها أو تباينها عن غيرها و اللّغة داخل محور التوزيع ( التركيب ) تدرك داخل فضاء فيزيائي نفسي يقترن فيه علم النّفس بعلم الأصوات .

ــــــــ

1- NOAM CHOMSKY (1929):LA nature formelle du langage et la linguistique   

cartesienne . Ed: Seuil. Paris.1967. Page : 75/80

 

حاول ‘‘ تشومسكي ’’ أن يتجاوز ثنائيّة ‘‘ سوسير ’’ نسبيّا بمحو التناقض بين الكلام و اللّغة كمؤسّسة اجتماعيّة باعتبار أنّ عوامل جديدة تتدخّل كالبيولوجيا و علم الوراثة و النّســـــــالة ( Polygenese  )لتعطي الكلام طابعا اجتماعيّا لا فرديّا كما اعتقد ‘‘ سوسير ’’ .

‘‘ جاك لاكان ’’ أضاف بنية ثالثة تجاوزا لثنائيّة  ‘‘ سوسير ’’ وهي بنية ‘‘ اللاّوعي اللّغوي ’’ وهي بنية مخالفة للبينة اللّغويّة العاديّة .    و أهمية‘‘ لاكان ’’ لا تقدر عندما أعاد الاعتبار للفرويديّة في حقل اللّسانيات لكنّه واجه عسرا في اكتشاف لغة الرّموز و الشّيفرة الخاصّة للغة اللاّوعي . و هو يعتبر في مؤلّفه : ‘‘ جدليّة الرّغبة في اللاّوعي الفرويدي  (1) ’’ أنّ الحلم و زلاّت اللّسان هي لغة عميقة تختلف عن اللّغة السطحيّة التي تكون مشحونة بكافّة الأشكال المؤسّساتيّة و القيميّة التي تحدّ من دورها في تحديد ماهية المتكلّم .

صفوة القول أنّ ‘‘ سوسير ’’ رغم كلّ شيء كان واضع حجر الزّاوية للنّظريات الّلسانيّة البنيويّة التي أتت بعده سواء بتجاوزه أو بالحفاظ على نفس التقسيم اللّساني و تغيير المفاهيم فنجد العالم

ــــــــ

1- J LACAN: Subversion du sujet et dialectique du desir dans l inconscient Freudien. in Ecrits

 

الفرنسي ‘‘ رولان بارط ’’ مثلا يعوّض ثنائيّة  ‘‘ سوســـير’’ لغة /كلام بثنائيّة الشكل و الاستعمال : shema/usage لسبب ربّما كونه يمهّد لظهور ‘‘ السّيميولوجيا ’’ أو ما سمّي بعلم العلامات مستلهما بذلك مبادئ التحليل النفسي كما طوّرها ‘‘ لاكان ’’ في حقل اللّسانيات ..

المهمّ و أنّ ما سمّيناه ب‘‘ الثورة الألسنيّة ’’ فعلا قد فتح الباب على مصراعيه لتراكمات جديدة في الأسلوبيّة و النّقد الأدبي عموما .

* * * * * * * *

الرجوع إلي الصفحة 1

 

الأسلوبيّة و الشّكلانيّة

لقد أثبت الفرنسي ‘‘ شارل بالي ’’ في كتابه : الأسلوبيّة الفرنسيّة الصّادر سنة 1902 أنّه بالاعتماد على ما أنجزته اللّسانيات يمكن للأصوات و الصّيغ الصرفيّة و العلامات النحويّة المختلفة أن تشكّل أدوات تعبيريّة تتساوى مع الكلمات . فالنصّ دالّ بكلّ ما فيه حتّى في مستوى أصغر الوحدات الدّلاليّة ( Les semes ) و أدبيّة النصّ تتحدّد مّما هو داخله من بنيات تركيبيّة و صوتيّة تعمل على تخصيب المعنى و تعميقه و لا قيمة لها في ذاتها إلاّ بما فيها من طاقات تعبيريّة تبرّر جماليّة النصّ . لذلك أصبح الأسلوب ذا معنى شامل يتّسع عن المعنى القديم الذي يربطه بالبلاغة و القوالب الجاهزة في فنّ الكلام . فالأسلوب إذا حامل للعناصر الخلاّقة بصفة عامّة و لم يعد قالبا أو مرجعا بلاغيّا نقيس عليه ‘‘جودة ’’ النصّ . صار الأسلوب يتلوّن بتلوّن الأجناس الأدبيّة و أنماط الخطاب و هكذا أمكن لنا القول أنّ الأسلوبيّة قد أعلنت سقوط البلاغة .

لئن استفاد ‘‘ شارل بالي ’’ من اللّسانيات في حقل الشّعر بصفة خاصّة فإنّ الشكلانيين الرّوس كان مركــــز اهتمامهم الأوّل ‘‘ القصص’’ أو الأجناس النثريّة بصفة أشمل و كما هو معلوم فقد تأسّست ‘‘ حلقة موسكو الألسنيّة ’’ في سنة 1917 و ‘‘ حلقة براغ الألسنيّة ’’ سنة 1926 و كان هدف الشّكلانيين فصل النّقد الأدبي عن بقيّة العلوم الإنسانيّة ( علم النّفس – علم الاجتماع .. ) التي لا تمتّ للأدب بصلة . أي بعبارة أخرى حصر الاهتمام في النصّ الأدبي بمعزل عمّا يحيط به من عوامل نفسيّة أو اجتماعيّة ؛ لأنّ هذه المداخل تخرج عن نطاق صناعة الأدب . كما آمنت الشّكلانيّة و أنّ ما يسمّى بالإبداع أو الجماليّة أو الأدبيّة هو مفهوم يتوقّف على الشّكل : إبداع في صلب الكلام بمعزل عن المعنى ( الشّكلانيّة ترفض ثنائيّة الشّكل و المضمون ) . و هكذا اعتبرت هذه المدرسة الإبداع ممارسة لغويّة قبل كلّ شيء و على الباحث كي  يهتدي إلى جماليّة النصّ أن يبحث في بنية الشّكل و الأنسجة الدّاخليّة للنصّ و من هنا جاءت تسمية المدرسة بالشكلانيّة . ( نلاحظ هنا تقارب الكلمة في الفرنسيّة بين النصّ : Texte   و النّسيج : Textile  ) . و من أبرز المؤلّفين الشكلانيين : رومان جاكبسون (1)، فلادمير بروب وهو الّذي اهتمّ بالقصص الشّعبيّة الرّوسيّة و كتب ‘‘ بنية الخرافة ’’  تزفتن تودوروف وهو من أبرز الشكلانيين الّذين جمعوا المنـــهج و طبّقه على رسائل ‘‘ لاكلوس ’’ : العلاقات الخطـــرة : Les liaisons dangereuses  و أشرف على هذا العمل ‘‘رولان بارط’’ سنة 1967 . و لا نريد أن نفصّل العمل الّذي قام به ‘‘ تودوروف ’’ في دراسة كتاب ‘‘لاكلوس’’ و إنّما نسعى فقط

ــــــــ

رومان جاكبسون : ولد بموسكو سنة 1896 صاحب كتاب : محاولات في الألسنيّة العامّة .

 

إلى لفت الانتباه إلى كونه قد طبّق المنهج الشّكلاني في النّثر كما طبّقه ‘‘ جاكبسون ’’ في الشّعر . و يستعمل ‘‘ تودوروف ’’ لفــــظ : الإنشائيّة :   Poetique الّتي تعنى حسب تعريف ‘‘ جاكبسون ’’ ب : تحديد أدبية النصّ . و لبلوغ هذا الهدف وضعت هذه المدرسة على عاتقها دراسة الأجناس الأدبيّة وتطوّرها ثمّ الوقوف على بنية كلّ جنس بمفرده . فالأدبيّة في نهاية المطاف تتحدّد انطلاقا من البناء الدّاخلي و آليات اللّغة التي تختلف من أثر إلى آخر و على النّاقد في المنظور البنيوي أن يعمل على استجلاء أصغر الوحدات المكوّنة للنصّ ليهتدي إلى شكل نظامه و فكّ السرّ المكوّن لنسيجه الدّاخلي و من هنا جاء اهتمام الشّكلانيين بمسألة البنية حتّى التصق بهم هذا المفهوم و صار دالاّ عليهم ‘‘ البنيويون ’’ ثمّ اتّسع مفهوم البنية ليشمل مجالات أوسع من البحث ( بنية الأسطورة مع كلود لفي شتراوس ، بنية اللاّوعي مع جاك لاكان ، و بنية التّاريخ مع ميشال فوكو .. )

نرى إذا و أنّ غرض الإنشائيّة هو استنباط القوانين التي ينبني عليها النصّ الأدبي دون اهتمام بتقييمه . فهي في مستوى أوّل قد أعلنت

ــــــــ

1- هيبوليت تان : ( Hippolyte Taine ) ( 1828/1893) ‘‘ فلسفة الفنّ ’’. طبّق تجاربه على ‘‘ شكسبير ’’ و ‘‘ دو لا فونتين ’’ و كانت دراسته بحثا نفسيّا و اجتماعيّا لا تمتّ للنّقد الدبي بصلة .

 

سقوط النّقد الانطباعي القديم الذي يتناول النصّ من زاوية كونه نتاجا بيوغرافيّا لصاحبه و ما يهمّ في العمليّة النّقديّة هو البحث عن التّطابق بين الأثر و صاحبه (1) . الهدف الآخر للبنيويّة كما أشرنا في الأوّل هو تأسيس علم النّقد الأدبي وهو الهدف الأسمى الّذي رسمته الشّكلانيّة في الأوّل . و لبلوغ ذلك وضع أصحابها على عاتقهم جمع القصص الإنساني بجميع وجوهه ثمّ محاولة استنباط الرّوابط المشتركة الّتي تجمع بين كلّ الأجناس النّثرية في الآداب العالميّة . و توصّــل ‘‘ فلادمير بروب ’’ إلى اكتشاف مجموعة من الوظائف و العناصر المحدّدة المتكرّرة الّتي نجدها في كلّ قصّة مهما اختلف مصدرها من الدب الرّوسي القديم أو الأنكليزي أو الفارسي أو اليوناني . و انتهى إلى حصر الوظائف في إحدى و ثلاثين وظيفة تجمع بين كلّ القصص الإنساني ك : البطل ، المانع ، المساعد ، المعتدي ، الوسيلة السّحريّة .. إلخ  . و همّ  ‘‘ بروب ’’ في ‘‘بنية الخرافة’’ و همّ معظم الشّكلانيين هو تأسيس نظريّة في النّقد الأدبي وهو عمل عسير و طويل المدى و كان جمع كلّ الأجناس النّثريّة العالميّة هو العمل الأوّل الّذي بدأوا  به لاكتشاف أوجه التّطابق بين هذه الأجناس إيمانا منهم بأنّ الأجناس النّثريّة مهما تفرّعت و مهما اختلفت فقد تجتمع في نمط واحد وهو : الشّكل القصصي .

لقد حاولت الإنشائيّة إذا التّعرّف على البنية المجرّدة للقصــــص و القوانين التي تتحكّم في النّصوص و لكنّها نسيت أو تناست ربّما في الآن نفسه أنّ النصّ لا قيمة له إذا تجرّد من السّياقات الاجتماعيّة و التّاريخيّة التي بها يحيا . فالكاتب لا ينشئ النصّ من عدم و لا يمكن أن تكون اللّغة بريئة من خلفيات فكريّة تظهر بصورة أو بأخرى عبر الأسلوب و فنّيات القول و لذلك في سنة 1961 أصدر العالم الرّوماني المنشأ ‘‘ لوسيان قولدمان ’’ ‘‘ سوسيـــولوجيّة الأدب و الفلسفة ’’ وهو عمل يستهدف نقد النّظريّة البنيويّة بالأساس . استفاد ‘‘ قولدمان ’’ من كتابات ‘‘ جورج لوكاتش ’’ حول القصّة و علاقتها بالصّراع الطّبقي و انتهى إلى إيجاد العلاقة بين بنية الأثر الأدبي و البنية الاجتماعيّة التي ولّدت الأثر لذلك يعتبر زعماء البنيويّة التوليديّة أنّ  الدب بصفة عامّة يندرج ضمن منظومة فكريّة محدّدة تمكّننا من فهم الواقع الاجتماعي قديما و حديثا . و من هنا جاءت فكرة التوليد أو التوالد التي هي عماد نظـــــريّة ‘‘ قولدمان ’’: فالاقتصاد يولّد الطّبقات الاجتماعيّة التي بدورها تنتج شكلا من ‘‘ الوعي الحقيقي ’’ و عنه ينشأ الوعي الثّوري الحامــل ل ‘‘ رؤية جديدة للعالم ’’ . فالأدب في مفهوم المذهب الاجتماعي هو خلق لتصوّر جديد للعالم كبديل عن الواقع الفاسـد ‘‘ المتدهور ’’ لذلك تصبح مهمّة النّاقد تتحدّد في إحدى مهامّها في البحث عن التّطابق بين الأثر الأدبي و الرؤية للعالم التي ينشدها  .   و اختزل ‘‘ قولدمان ’’ مشروع نظريّته في كتاب ‘‘ الإله الوهمي ’’ ( Le Dieu cache ) توصّل من خلاله إلى تحليل بنية المجتمع الأرستقراطي في القرن السّابع عشر و تمظهرات ذلك في المسرح الكلاسيكي و محاولة تأسيس رؤية جديدة للعالم تستهدف الإطاحة بالمجتمع القديم و كان ‘‘ جون راسين’’ ( 1939/1699) محور اهتمام ‘‘ قولدمان ’’ لهذه الحقبة من خلال ‘‘ فيدر ’’ و ‘‘ أندرومـاك ’’ و ‘‘ عتاليه ’’ وهي مسرحيات تكشف عمق النّظرة الإنسانيّة التي ينشدها ‘‘ راسين ’’ كرؤية بديلة عن العالم الفاسد . كمـــا درس ‘‘ قولدمان ’’ خواطر ‘‘ بليز باسكال ’’ المولود في نفس الحقبة ( 1623/1662) و المعبّر عن نفس الرّؤية و الوعي و لقد تبلورت أفكار ‘‘ راسين ’’ و ‘‘ باسكال ’’ سياسيّا و إيديولوجيّا في تيار فكري ديني هو تيّار ‘‘ الجنسونيّة ’’ .

يستند ‘‘ قولدمان ’’ إلى نظريات ‘‘ كارل ماركس ’’ و ‘‘ جورج لوكاتش ’’ في ربطه بين بنية الرّواية و بنية الاقتصاد و لربّما كانت الرّواية إفرازا للمجتمع الرأسمالي الذي يخلو من القيم الأصيلة حسب تعبير‘‘ لوكاتش ’’ و يتّسم بالتّناحر الطّبقي و سيادة المصلحة المادّية بين النّاس . و يرى أنّ الرّواية تشكّل امتداد تاريخيّا للملحمة بما هي تصوير لشكل من أشكال الصّراع سوى أنّ الأولى تصوّر صراع الإنسان مع الإنسان و الثّانية تحكي صراع الإنسان مع الآلهة . و لئن كان البطل في الملحمة هو العنصر البارز و مركز الأحداث فإنّ الرّواية و سائر الأجناس القصصيّة قد تميّزت بتلاشي البطل تدريجيّـا و أسماه ‘‘لوكاتش ’’ : التّشيّء Reification . فأسطورة البطل انتفت و حلّت محلّها الأشياء بما هي شكل من البضاعة التي فرضتها المنظومة الرأسماليّة و ينتهي ‘‘ قولدمان ’’ إلى كون العصر الرأسمالي هو عصر سيطرة القيم المزيّفة على القيم النوعيّة الأصيلة و يحدّد انطلاقا من ذلك مهمّة الرّواية باعتبارها : ‘‘ بحثا عن قيم أصيلة في عالم متدهور سادته قيم مزيّفة (1)’’ . و يضبط مهمّة دارس الأدب في مرحلتين : مرحلة الفهم : Phase de comprehension أي دراسة الرّواية من الدّاخل لتحديد بنيتها و هيكلها و ضــــبط ‘‘ الرؤية للعالم ’’ التي تحملها ثمّ تأتي العمليّة الثّانية :         مرحـلة التفسير : Phase d explication  وهي دراسة خارجيّة الهدف منها اكتشاف العلاقة بين البنية الشكليّة للرّواية و علاقتها بالبنية الاقتصاديّة و الاجتماعيّة . و يعتبر ‘‘ جورج لوكاتش ’’ أنّ الرّواية لا تدخل في تاريخ الأدب إلاّ بقدر ما تؤسّسه من قطيعة مع المجتمع و السّلطة لأنّ الرّؤية إلى العالم تقتضي وجود رؤية سائدة يرفضها الأديب و يسعى إلى تدميرها و تعويضها برؤية بديلة هي : الوعي الجماعي أو الوعي الثّوري بالمعنى الماركسي للكلمة .

هكذا إذا استطاعت البنيويّة التوليديّة أن تكمل ما افتقدته الشكلانيّة

ــــــــ

1- Pour une sociologie du roman: p: 21/57

 

وهو ربط النصّ بسياقه التّاريخي و الاجتماعي و فهمه في إطار العلاقات التي أفرزته . و لئن وفّق الاجتماعيون في ذلك فإنّهم أهملوا نسبيّا الأدبيّة التي كانت محور اهتمام الشكلانيين . و مهما كانت الشّوائب فإنّ المناهج الحديثة في النّقد و اللسانيات قد أضافت الكثير و شكّلت انعطافا هامّا في تاريخ الفكر . و على النّاقد العربي الحصيف اليوم أن يراجع بأكثر موضوعيّة معايير النّقد السّائدة لديه  و موقفه من البلاغة القديمة ليس بهدف استهلاك كلّ ما هو مستحدث غربيّ و إنّما في محاولة لتطويع بعض المقاربات بشكل خلاّق إلى خصوصيات الثّقافة العربيّة بعيدا عن التعقيد في المفاهيم أو التنظير المملّ و احتراسا من المناهج المسبّقة لأنّ الأثر الأدبي لا يقبل في كلّ الحالات التمديد على سرير ‘‘ بروكست ’’ و يرفض المفاتيح الجاهزة لأنّ ذلك يطمس العمليّة الإبداعيّة بأيّ حال من الأحـوال و يقتلها تحت عتبات التنظير و المفاهيم الجامدة و لذلك وجب كما قال جورج طرابيشي : ‘‘ فتح القفل لا خلعه(1) ’’ لأنّ النصّ خالق لمنهجه . 

 

ــــــــ

1- جورج طرابيشي : الأدب من الدّاخل . ص 4/5

الرجوع إلي الصفحة 1

التفكيك : من التّجاوز إلى العدميّة

تمهــــــــــيد

 

 قد يلتبس المعنى اللغوي لمفهوم المقاربة بالمعنى الاصطلاحـي و لكن ذلك لا يمنع من توافق الدلالة المكانية لمعنى المقاربة بوصفها تلتصق بمعنى الدنو و الاقتراب الحسي المكاني خلافا للتباعد مع الدلالة الاصطلاحية ا لمنقولة عن الفرنسية بلفظ Approche     وهي منهجية في التعامل تقتضي خلق مناطق تماس بين نمطين متباعدين من الخطاب مهما كان نوع الخطــاب و الموضوع الذي يطرقه . كما يأتي المصطلح كبديل ينفي ضمنيا أيّ تطابق مسبق بين المنهج و الخطاب المدروس  فنحن في "المقاربة" نشتمّ الحذر والتوجس مما قد نسقط فيه من أحكام معيارية جاهزة أو قراءة آثمة لأيّ نصّ من النصوص .

·  الخطاب : ميّز " إميل بنفنيست " في" سيميولوجيا اللغة " بين السرد و الخطاب و التلفظ : Narration – Discour- Enonciation  فاعتبر السرد قصّا يرد بشكل محايد لجملة من الأحداث لا تظهر من خلالها هوية المتكلم أما الخطاب فيشكل الجانب الإجرائي الذاتي للسرد لأنه في الخطاب نعثر على قرائن لغوية تفضح هوية المتكلم ك( النعـوت و صيغ الالتماس و الطلب و التحسر …) فيمكن إذا أن نعتبر السرد حياديا أما الخطاب مهما كانت موضوعيتـه و تعاليه فهو ذاتي بالأساس . أما القرائن اللغويــــة و التركيبية الدالة على المتكلم فهي ما سماها" بنفينيست " بالتلفظ . و لعل هذا التمييز هو ذاته الذي تطـــرق له" سوسير" في ثنائيته لغة / كلام  و عبر الكلام تتشكل الدلالة و تتحول اللغة إلى خطاب . يحاول الخطاب أن يوهم بالشفافية و الموضوعية و التطابق و لكن مستوى التلفظ يفضح ذاتية الخطاب و تعاليه و اكتنازه بالمعنى فيتحول إلى وثن عبر انغلاق أنساقه المعرفية و يمارس علينا نوعا من السلطة و الأستاذية لترويضنا بأسلحة الشفافيـة و الحقيقة و التاريخية . و لقد عبّر " ميشال فوكو" عمّا يسميه بفاشستية الخطاب في شكل تساؤل معرفي عميق : ‘‘ كيف يمكن فرض الرغبة إلى الفكر و الخطاب ؟ ’’ ثم يستبدل المقولة الديكارتية المعروفة ‘‘ أنا أفكر إذا أنا موجود ’’ بمقولته الساخرة : ‘‘ أنا أرغب إذا أنا موجـود ’’ كان يعي بذلك تمام الوعي أنّ الخطــاب و الفكر لا يقلاّن شأنا عن الجهاز البوليسي المضطلع بوظيفة الخصي  والتدجين و لعلّ الخصي الذهني أشدّ درجات الاضطهاد التي تشهدها الانسانية المعاصرة في ظل النظام العالمي الجديد . و قد يتبادر للذهن أنّ مقاربتنا تخصّ بالدرجة الأولى الخطاب الفلسفي و الخطاب النقدي بصفة خاصة بيد أننا ننظر إلى المسألة بأكثر عمق و اتساع إذ يمكن أن تنضوي تحت الخطاب كل الأشكال النسقية المغلقـــة و الأنظمة السيميائية الساعية إلى فرض حضورها المتعالي بشكل أو بآخر.

فالتلفزة و الإعلام و السينما و الدعاية و الإشهار و غيرها تفرض منظومتها السيميائية علينا سواء وعينا ذلك أم لا .    و لئن سعت البنيوية بمختلف تفريعاتها إلى دراسة الخطاب دراسة وصفية قصد الوصول إلى كنهه و القوانين المتحكمة في بنائه – هنا نستحضر مشروع ‘‘ فلادمير بروب ’’           و ‘‘ قريماس’’ في محاولة لاستكشاف القوانين العامة التي تحكم القصص الإنساني و بصفة محددة القصص الروسي القديم - فإن ‘‘التفكيكية’’ جاءت لتقويض أيّ شكل من أشكال الخطاب و التشكيك في كل النتائج التي وصلت إليها البنيوية إن لم نقل أنّ البنيوية قد تحولت إلى ‘‘خطاب ’’ هي الأخرى بوصفها لم تسلم من ظلال المعنى و الإيديولوجيا . ‘‘ التفكيكية ’’ إذا تستهدف أمرين مترابطين في صلب الخطاب :الهدم والتقويض في مرحلة أولى لأيّ شكل من الخطاب يدّعي ملامسة تخوم المعنى ثم الحفر عن المعنى المغيّب الهامشي قصد فتح النص على فضاءات لانهائية من المدلولات التي طمسها الحضور . فالتفكيكية تؤمن أنه في ظلّ كل خطاب يركن المسكوت عنه في ثنايا المدلول المهيمن بحضوره وشفافيته و منطقيته ، و ما عمل التفكيكية في ظلّ سيطرة الحضور سوى تخصيب شبكة المدلولات شبه الميتة و فتحها على آفاق رحبة و مستمرّة من القراءات . إذا يمكن لنا بمقارنة بسيطة أن نعتبر التفكيكية قد انحرفت بالمسار الذي رسمته البنيوية ، فهذه قد فككت الخطاب قصد بنائه من جديد وفقا للمعيار و بالتالي كان غرضها تأسيسا و الأخرى فككت الخطاب بهدف تقويضه و فضح نسقيته و منظومته المتعالية وهي لا تروم فكرة التأسيس و تهرب من السقوط في المدرسية أو حتى أن تسمي نفسها منهجا . كما لا تعد ّ التفكيكية نفسها منهجا نقديا لأن الخطاب النقدي في حدّ ذاته موضوعها ، فكما شكلت كل الأنساق المعرفية عبر التاريخ مرجعا يوجّه وعينا القطيعي و فهمنا للوجود و يوهمنا بالانسجام و التطابق ها هو الخطاب نفسه يقف أمام مشرحة التفكيك و يتحوّل من مستنطق ( بكسر الطاء) إلى مستنطق ( بالفتح) و يمثل أمام دائرة الاتهام .

                       

الوهم البنيوي و التفكيك

اقترن مصطلح التفكيك ‘‘ Deconstruction’’ بالفبلسوف الجزائري المولد فرنسي النشأة جاك دريدا ولد ب" الأبيار " قرب الجزائر سنة 1930 و تركزت دراساته في الأول حول "مالارميه" و " جورج باتاي " والإرلندي" جيمس جويس " و الفيلسوف الألماني " هيديغر " و غيرهم و انتهى إلى جملة من المقولات تؤسس لفلسفة جديدة يمكن تسميتها بفلسفة التفكيك و الاختلاف . و استطاع " دريد ا" أن يجمع آراءه في ثلاثة مؤلفات هامة هي { الكتابة و الاختلاف : L ecriture et la Difference 1967 – في علم النحو .

De la Grammatologie 1967 – و كتابه اللاحق: أجراس الحداد: Glas 1974}.

كما لا يمكن البتّ نهائيا ولو من باب الحذر و التحرّي في كون بعض مقولات التفكيك جاءت كامتداد معرفي إبستيمولوجي لما شرعت فيه الوضعية المنطقية من خلال محاولات تقويض" الخطاب" العلمي" (لا ندري إلى أيّ مدى يمكن استخدام لفظ "خطاب" في المجال العلمي باعتبار أن الملفوظية لا تظهر بشكل جليّ أو تكاد تنعدم في لغة العلوم ) ثم تأتي مدرسة فرنكفورت متزامنه تقريبا مع الأولى و لكنها تمسّ الخطاب الفلسفي بالأساس معلنة من خلال ممثليــها ك" ماكس هورخيمر : Horkheimer" أنّ العقلانية الحديثة لا تقلّ شمولية و تسلطا عن المنظومات الشمولية القديمة ( أنماط الخطاب الفلسفي و الديني ) فثمة إذا نقاط مشتركة ( تراكم معرفي ) في مستوى نقد مركزية العقل و تحويله من معيار للحقيقة و الشمولية و التطابق إلى خطاب فاضح متسلط مساهم في تشكيل المؤسسة التوتاليتارية ( ظهر المصطلح مع موسليني فيما بين 1928و1930) و كانت الفلسفة الفرنسية المعاصرة هي التي صلبت على مشرحة النقد المعرفي من قبـل " هيديغر " و " ميشال فوكو" و " كلود لفي شتراوس"فظهرت شعارات من نوع " فاشستية الخطـاب " و " الخطاب الخصي " " و خطاب القسر " و غيرها من الاستعارات المختلفة فيدعو " ميشال  فوكو" إلى الجنــون و الهذيان كحلّ مؤقت لمجابهة سلطة الخطاب ( حفريات المعرفة 1969) و يجد  "كلود لفي شتراوس ضالّته في الأسطورة و المجتمعات اللاكتابية التي ينتفي فيها الخطاب و كان هدفه خلخلة المركزية الأوروبية التي وضعت نفسها مرجعا للوجود الإنساني ( الانتروبولوجيا البنيوية 1و2 1958إلى 1977 )و ينتهي قائلا :" المسألة لا تخص ّ فكرا بدائيا ( غير متمدّن أو متحضر ) بقدر ما يمكن أن نسميها بالفكر المتوحش ( غير مروض)  ..و كلّ اعتبار للتاريخية هو سقوط في الإيديولوجيا " ( المصدر السابق ). يثبت " لفي شتراوس من خلال الشاهد أن المركزية الأوروبية هي التي وضعت القبائل البدائية في مصاف اللاحضارة و على هامش التاريخ انطلاقا من مركزية النمذجة و الفوقية الاستعلائية . و إذا كان " فوكو " قد تحدث عن اللاوعي   و الجنون و الهذيان و " لفي شتراوس " عن الأسطورة والأشكال التعبيرية البدائية فكلاهما سعى إلى البديل الآخر الشيء الذي يختلف مع " دريدا " لأنه بحث عن البديل       ( الغائب ) من داخل الخطاب ذاته فوكو يحفر في اللاوعي و لفي شتراوس يحفر في التاريخ ودريدا يحفر في هامش الخطاب ، الغائب و المسكوت عنه بفعل هيمنة الحضور و شفافيته . فالمطلوب حسب جاك دريدا هو تفجير المسكوت عنه و إخراجه إلى السطح حتّى ينافس المدلول المهيمن الوثوقي و هكذا تنكشف قدسية الخطاب ، ففي كل شفافية يركن ما هو معتّم و في كل إيهام بالتطابق ينزوي ما هو مخالف مضادّ و في كلّ ما هو مركزي يختفي ما هو مهمش منتهك خارج عن المعيار .

كان مشروع دريدا إذا هو الحفر عن كل مظاهر الغيــاب و الإقصاء في النصّ مهما كان الوهم الذي يحاول الخطاب تضليلنا به مستخدما أسلحة التبسيط و الوضـــــوح و الانسـجام . يقول دريدا في فصل " النسيان ، الغباوة " من كتابــــه    :" التجربة الحدّ " :" ينبغي التوجه نحو الآثار الكبرى الغامضة للأدب و الفن من أجل سمـــاع _ ربما _ لغة الجنون من جديد " (ترجمة جورج أبي صالح . العرب و الفكر العالمي العدد12 خريف 1990).

لا بدّ من الإشارة قبل التعرض لمقولات التفكيك إلى مدى حضور التفكير "الهايديغيري" في فلسفة دريدا إن لم نقل أنه المرتكز الذي بنى عليه جملة من المفاهيم و الآراء المهمة حول الميتافيزيقا الكلاسيكية وفلسفات الحضور . نشر سنة 1929 كتاب بعنوان : "كانط و مشكلة الميتافيزيقا " لهايدغير يعدّ في رأينا المنعرج الذي شكّل نقطة التحوّل في فلسفة هايدغير في آخر أيامه . و على الرغم من عسر الكتاب وصعوبة المصطلحات التي يستعملها هايدغير يمكن أن نقف بشيء من التبسيط على جملة من المقولات المهمة في خصوص علاقة الوعي بالوجود و مفهوم الكينونة عنده :

1- ترتبط علاقة الإنسان بالوجود عن طريق الوعي وهو المرجعية التي تقيس بها فلسفات الحضور الحقيقة و الواقع  الوعي إذا هو الذي يحرّك فهمنا للعالم وتمييزنا بين الأشيـاء و تحاول الميتافيزيقا أن تحدد الوجود من خلال مركزية الوعي، يتصدى هايديغير للميتافيزيقا منجوانب كثيرة :

أولها أنّ الوعي بنية تاريخية متغيرة لا يمكن أن يتمثل الواقع على نحو واحد و ثابت فالتاريخ البشري أثبت عبر حقبات عديدة كيف يفشل الوعي في كلّ مرة في تمثل العالم على نحو واحد صحيح . فالوعي حسب هايدغير يمكن أن يلامس الحقيقة كما يمكن أن يكون على هامشها و لكن الشيء المستحيل هو الوصول إلى التخوم و ادعاء النفاذ إلى الجوهر: يقول هادغير بشيء من الشاعرية متحدثا عن الوعي : " إنه لا يقول شيئا مما يمكن وضعه في كلمات، إنما هو يظهر الخطيئة في هيئة الصمت القلق."الوجود و الزمان1927 . النتيجة الثانية التي يخرج بها هايدغير في تصديه لميتافيزيقا الحضور تتعلق بوهم المطابقة بين الوعي و العقل و الحقيقة فليست الحقيقة التي تستجيب لمقتضيات العقل و تكون حاضرة في الوعي.

تحاول الميتافيزيقا أن توهم بهذا التطابق في حين نرى أنّ التراكمات المعرفية التي شهدتها البشرية تثبت مثالية هذا الوهم ألا وهو : إطلاقية الحقيقة و ثبوتها لذلك يغدو العقل هو الآخر بنية غير مستقرة و قابلة لأن تحمل الحقيقة مغلفة بمعطف الوهم فما يعدّ عقلانيا في مرحلة ما قد يغدو وهمـا و خرافة في مرحلة لاحقة.

كما يثبت هايدغير تاريخية الوعي في علاقته بالكينونة يثبت كذلك أنّ الكينونة صيرورة تنمو و تتطور ولكن بدون أن تستقل عن الوعي ( موقف مثالي انتقدته الإيديولوجيا الماركسية لدى هايدغير في جعله الكينونة  والطبيعة و المادة أشياء غير مستقلة عن الوعي و سمّت ذلك من منطلق نسقي بالمادية الذاتية ) بولتزير " أصول الفلسفة الماركسية ص 250 . الذي يهمنا من كل ذلك هو تنزيل الكينونة في بعدها التاريخي بغضّ النظر عن تغييبه لمسألة موضوعية الكينونة      ( نظرة ذاتية مثالية ) يقول في "الوجود و الزمان" :‘‘ يتميز الموجود هناك بأنه كائن و بأنه دائما لي .’’ و بدون أن نخوض في الجدل الإيديولوجي المعروف بين الفلسفة الماركســـية و فلسفة هايدغير الوجودية ، فقط ما يشدنا إلى هذا البحث هو الموقف المتصدي للميتافيزيقا في نظرتها إلى الكينونة و الوعي ، فالوجود لا يعدّ لحظة ثابتة ممتلئة بالحضور بقدر ما هو نزوع  (Tendance)إلى الحضور و الامتلاء لا يخلو من غياب . يقول هايدغير في "الوجود و الزمان": ‘‘إنّ الوجود الذي في المتناول فقط لا يؤسس على مجرّد الحضور  و بالعكس فإنّ الحاضر هو دوما حاضر فقط .’’ الحاضر في فلسفة هايدغير يحمل في طياته الغياب و الوجود لا يتأسس على الحاضر فقط فكلما حاول الحاضر اقتناصه بشيء من الامتلاء إلاّ و انفلت و تحول إلى لحظة غياب .

حاول دريدا أن يستثمر بعض المقولات الوجودية التي بنى عليها هايدغير نقده للميتافيزيقا و لكنّ المعالجة عنده كانت متركزة على الخطاب النقدي و الفلسفي أكثر مما هي معالجة وجودية و من هنا يتأسس المشروع التفكيكي باعتباره "خطاب" على خطاب ( Meta discour) . يحاول التفكيك أن يحفر في جسد الخطاب فأسه في ذلك ثنائية الغياب و الحضور و ذلك بهدف استنهاظ النائم و استنطاق المسكوت عنه واستنارة المعتم و المخفي تحت الظلال و تخصيب المدلول . فالخطاب يحاول بشكل أو بآخر أن يهيمن بسلطة الحضور  سلطته لا تقلّ عن سلطة "العرف ""و السجان" ( التعبير لرولان بارت ) ، يوهم بالحقيقة و لكنه مسكون بالمعنى  بالمؤسسة و الإيديولوجيا و من خلال هذا الاستبداد السلطوي للحضور يتحدث " رولان بارت " عن " المعنى الحاف : Connotation" ويكاد يكون المفهوم المماثل – مع بعض الخصوصية لدى بارت – لمفهوم الغياب عند دريدا . ففي الأصوات المتعالية لجسد اللغة نسمع على حدّ المصطلح البارتي ما يسميه بالحفيف : Le Bruissement)) ( حفيف اللغة : كتاب صادر سنة1984 . مجموعة" كما هو ": Tel Quel) .

الاختلاف ( Differance): قبل أن نتناول هذا المفهوم بالدرس و التحليل لا بدّ من الوقوف و لو بإيجاز شديد على المتغيرات التاريخية التي تجعلنا ندرك فلسفة دريدا بالذات في هذه المرحـلة . يضع العديد من الفلاسفة دريدا و هايدغــير و نيتشـــه و فوكو (قد نكتفي بأشهر الأسماء )ضمن مرحلة مابعد الحداثة  ( Le Postmoderne ) وهي المرحلة التي شهدت أمرين هامين في الحقل المعرفي و الفلسفي : 

أ‌-                سقوط الميتافيزيقا و التاريخ

ب- تحول العقلانية في حدّ ذاتها إلى نمط ميتافيزيقي جديد تقف عليه بصلابة الحداثة الغربية و تحاول من خلال مركزيتها العقلية ( Logacentrisme) أن تبرمج العالم وفق مصالحها .

على المستوى الاقتصادي و الاجتماعي يتحدث العديد من المفكرين( نخص بالتحديد المفكر السوري محمدجمال باروت ضمن مقال في مجلة الكرمل تحت عنوان " منطق ما بعد الحداثة " )عن مرحلة جديدة يشهد فيها العالم الغربي تحولات في طبيعة الدولة الرأسمالية و يحدد بعض الخصائص التي تسم مرحلة ما بعد الحداثة نلخصها في النقاط التالية :

-   تحول الدولة من دولة تعددية ليبرالية تقوم وحدتها الأساسية  على "الفرد" إلى دولة  مؤسساتية تقوم وحدتها الأساسية على "المؤسسة " و بالتالي انتفاء الفرد و الفردية و إحلال المؤسسة و المجموعة محلها ( موت الإنسان : ميشال فوكو )

-    تحويل الفرد إلى قيمة نمطية استهلاكية و رمزيــــة ( استخدام الجسد في الإشهار و الإعلانات و تحويله إلى علامة أيقونة لتسويق المنتوج  : الجسد الوثن : رولان بارت )

-    إخضاع الفرد للمؤسسة و برمجته نفسيا و إيديولوجيـا و بالتالي لم تعد له الحرية في بناء رأيه بكل استقلاليــة و حتى التنافس الحرّ الذي قامت عليه الرأسمالية القديمة صار مبرمجا وفق خطط مسبقة  وأهداف و شروط معينـة .

-    قد نضيف إلى الخصائص التي ذكرها محمد جمال باروت عنصر المعلوماتية و انتشارها الكبير في العالم ( تبضيع المعرفة : جون فرنسوا ليوتار ) و بهذا الشكل يمكن أن نتحدث حتى عن البرمجة المعرفية و القرصنة المعلوماتية مما قد ينتج عنه موت القدرة الخلاقة لدى الفرد و تحوله إلى مجرد عارف مستهلك لا عالم ( يميز ليوتار بين عارف : Sachant و عالم : Savant )

يشير جون فرنسوا ليوتار في بحث له صادر سنة 1979 بعنـوان :  " ظروف ما بعد الحداثة " إلى ما يسميه ‘‘بسقوط الحكايات الكبرىو ما ورائيات الخطاب لأنها فقدت المصداقية رغم مظهر الانسجام و الشفافية الذي تتستر بــه ’’ و لعل المقصود من بين الحكايات الكبرى هي العقلانية الحديثة و يعطي تعريفا لمرحلة ما بعد الحداثة بكونها " مرحلة التوجس و الارتياب من كل خطاب ." بهذا التعريف يحدد ليوتار عصره ما بعد الحداثي معتبرا أن لبنته الفلسفية الأولى تبدأ مع نيتشه أول من نظّر لسقوط الميتافيزيقا و هدم أسطورة العقل . الكثير من المفكرين يعتبرون نيتشه نقطة انعطاف في تاريخ فلسفة ما بعد الحداثة  بدأت على إثرها الميتافيزيقا تتهاوى . كانت العبارة الشهيرة التي صاغها في كتابه الشعري " هكذا تكلم زرادشت " على إثر حوار خيالي بين زرادشت ( رمز السوبرمان في فلسفته) و الناسك الذي اعترضه و حدّثه عن الله فيقول زرادشت محدثا نفسه : ‘‘ يبدو أنّ هذا الناسك المسنّ لم يسمع بعد وهو في غابته أنّ الله قد مات ! … لقد ماتت جميع الآلهة ، و نريد الآن أن يعيش السوبرمان ’’. هذه العبارة التي مثلت نعيا لبلوغ الميتافيزيقا دورتها الأخيرة . و بغض النظر عن الخلفية التي ينطلق منها نيتشه في تصديه للعقل ( إعادة المجد الأرستقراطي الذي أفسدته الأوهام الديمقراطية و بالتالي إحياء القيم النبيلة القديمة كالشجاعة و القوة و الجرأة وفي الأخير تشكيل أسطورة الإنسان الرقى ) فإنه يعتبر الثقافة العقلية المتزامنة مع صعود البرجوازية الليبرالية و بروز مفهوم المساواة و العدالـة و الشفقة سببا في انحطاط الإنسانية لأنّه بحكم المنظومة النيتشوية لا يمكن للقيم العقلانية البرجوازية أن تبني أسطورة الإنسان الأعلى القائمة على القوة و العنـــــــف و المخاطـــرة و الابتكار و لا يمكن للسوبرمان النيتشوي أن يتساوى مع عامة الشعب كما تدعو إلى ذلك منظومة القيم العقلانية الحديثة  . لا نريد أن ندخل في نفس الجدال الإيديولوجي و إثارة مسألة الانحياز الواضح من قبل نيتشه إلى الطبقة الأرستقراطية باعتبارها "الفئة الصفوية القادرة على توحيد العالم و إنتاج أفذاذ الرجال و العظماء " أما الديمقراطية و الثقافة العقلانية  فهي سخافة حكم الأغلبيــة و يجب القضاء عليها " ( قصة الفلسفة :      ول ديورانت ص 536) . ما يهم البحث لدينا هو الانحراف الذي خاضه نيتشه ضدّ العقل في الوقت الذي كانت الإنسانية تعتقد أنها قد بلغت مرحلتها الأخيرة من الكمال بعد مرحلة التفكير الميتافيزيقي ثم التفكير الديني ( تصنيف دوركهايم ) . لقد وصلت العقلانية إلى ما وصلت إليه الميتافيزيقا من الغائية و الشمولية و بالتالي تشكلت " أسطورة العقل " بنفس المفاهيم النسقية القديمة * .

ينطلق جاك دريدا من هذا المنعطف الذي قاده نيتشه و واصله هايدغير للتصدي هو الآخر للخطاب الميتافيزيقي مستعينا في ذلك باللسانيات ( دو سوسير ) و السيميولوجيا ( بارت )  و من المفاهيم الأساسية التي شكلت أرضية العمل التفكيكي مصطلح : الاختلاف Diffιrance ( استبدل دريدا e الفرنسية ب a للارتقاء بالكلمة من حيّز المفهوم المعجمي إلى المفهوم الاصطلاحي ) والاختلاف يأتي كبديل عن الثنايات التي كلّست الفكر و سجنته في قوالب مفهومية جامدة مثل : الروح/الجسد ، العقل/ العاطفة / الفضيلة / الرذيلة ، الجوهر/ العرض ..و لقد مركزت الميتافيزيقا نفسها عبر هذه الثنائيات و جعلت التفكير الإنساني لا يتحرك إلاّ ضمن هذا السياج المفهومي المغلق ، و الاختلاف كما يقول دريدا مصطلح عائم مزدوج المعنى : ففي الاختلاف يعني المغايرة و عدم التماثل من جهة كما يعني الإعاقة و الهدم و التبديد من جهة ثانية. و يمكن أن نحصر هذا السيل من الدلالات لمصطلح الاختلاف في ثلاثة مدلولات أساسية :

أ – الإرجاء : Le Retard : تتمثل عملية الإرجاء في منظومة دريدا في إعاقة التطابق بين الدال و المدلول وتأجيل الحضور الدلالي إلى ما لا نهاية ، إنها عملية تستهدف تحرير المتلقي من فكرة التمركز الدلالي ورصد المعنى النهائي  الثابت ومن جهة أخرى  إثارة المغيب و المهمش الذي يفيض عن المدلول . لا بدّ هنا من الإشارة إلى بعض الفروقات الهامة في تصور المعنى بين دريدا و رولان بارت ، فإذا كان الأخير يحدد المعنى بوصفها عملية انزياح في المحور التركيبي للغة متمثلا في ذلك برقعة الشطرنج بحيث تكتسي كل قطعة قيمتها من خلال موقعها في الرقعة و كذلك اللغة إذ تكتسي كل كلمة معناها من خلال موقعها في التركيب و السياق بعامة و ينشأ الاختلاف في المعنى إثر عملية إعادة التوزيع في المحور التركيبي           (Axe Syntagmatique ) ، فإنّ المعنى لدى دريدا يظلّ عائما مبددا و منثورا لا يمكن تسييجه  و بلوغ تخومه.

ب-التفكيك: La Deconstruction : من المفاهيم الأساسية التي طورها دريدا و حول مدلولها من المعنى الحسي ( التهــديم و التصديع ) إلى معنى أكثر تجريد وهو المعنى المفهومي المتمثل في التفكيك و الحفر داخل الخطاب لبعث الدوال المدفونة في النسيج الداخلي ثم تخصيبها و إطلاقها من جديد ( البؤر الدلالية) .

و لا يمكن بحال من الأحوال اعتبار التفكيك عملية بنيوية لأنّ البنيويين درسوا النظام الداخلي للخطاب بهدف الوقوف على القوانين المتحكمة فيه و من ثمة تبريره لا تقويضه و إعادة تثبيته لا نفيه فالبنيوية لم تثر في منظومتها المعرفية مسألة مركزية الخطاب و تعاليه بقدر ما اعتبرته شيئا حاضرا مفروضا مسبقا وإن كان المعنى آخر الاهتمامات عند البنيويين و الشكلانيين الروس .

يتحول المتلقي في التفكيك من متقبل سلبي للخطاب إلى عنصر فاعل يعيد إنتاجه بالشكل الذي يحدّ من هيمنة الحضور و تسلط المعنى فالقارئ المثالي في منظومة بارت و دريدا هو الذي يهرب من خطط المخادعة و الاحتواء وهو قارئ متمرس عارف أنّه واقع تحت شباك الحضور و الامتلاء ، فهو القارئ والكاتب الثاني الذي ينهض ليعيد تركيب الخطاب   ( موت المؤلف ) و يسدّ النقص فتتحقق ما يسميه بارت بلذّة النص ( Le Plaisir Du Texte) ( التقريب بين فعل القـــراءة و التفكيك ورغبة الاشتهاء والافتضاض ) .

ج- الإضافة : Supplement Le : وهي عملية مكملة لفعل التفكيك و تتمثل في سدّ النقص و محاولة ملء الغياب بتفجير سيل المدلولات المحتملة و التي بإمكانها أن تنافس الحضــور و تهميشه ، ففعل الإضافة فعل يضعه دريدا في نفس الحقل الدلالي لمعنى الاختلاف فهو "يشق و يؤجل الحضور في نفس الوقت "  " fois fissure et retarde la presence A la ".        

مركزية العقل: Logocentrisme :

يمثل نقد العقل في فلسفات مابعد الحداثة ( نيتشه هايدغير دريدا) أساسا فكريا منه تنطلق جملة التساؤلات حول الوجود و الفلسفة و لا نريد هنا أن نحصر العقلانية في مجردّ الحصيلة المعرفية الثقافية .

الحضارية التي أنتجتها الإنسانية في المرحلة المزامنة للثورة العلمية و الصناعية وهو المفهوم التاريخي الزمني   بقدر ما نودّ أن نقف على الأصول الفلسفية للعقلانية ، العقلانية المبنية على الحضور بالمعنى الهايدغيري . يطرح هادغير التساؤل المهم حول الفلسفة :‘‘ أن نتفلسف هو أن نتساءل   عما    هو   خارج     النظام..و التساؤل نفسه خارج عن النظام’’       ( مدخل للميتافيزيقا ) وهي الإشكالية التي فجّرت موت الفلسفة و انهيار الميتافيزيقا ، كيف نتفلسف خارج الميتافيزيقـا ؟ إنه السؤال الجوهري الذي أفضى بالكثير إلى العدمية  ( نيتشه ) .

استثمرت التفكيكية نقد نيتشه و هايدغير للميتافيزيقا و لكن بالتركيز أكثر على خصائص الخطاب الذي تتخذه الميتافيزيقا كسلطة مطلقة للحقيقة معيارها المطلق هو اللوغـــــوس و حضوره المتعالي و خرج دريدا بجملة ملاحظات أهمها :

-   أنّ الحداثة الأوروبية قائمة على ميتافيزيقا المركزية العقلانية وهو الوهم الذي جعلها تفرض منظومتها المتعالية على بقية الشعوب و ما على فلسفات ما بعد الحداثة سوى تقويض هذا الوهم الميتافيزيقي ووهم الخلط بين الحداثة و العقلانية أو بين العقلانية و العلم ( الكثير من المفكرين العرب لا يزال عندهم هذا الوهم في اعتبار العقلانية و الحداثة  الأخذ بأسباب العلم فسقطوا فيما نظرت له الإيديولوجيا الغربية في حين أنّ الفرق واضح بين العقلانية باعتبارها جملة تصورات معرفيـــــة و ثقافيـــة و فنية للوجود يمثل العلم إحدى آلياتهـا و يمكن أن تستوعب العقلانية مظاهر المخزون الروحـي و القيمي و النفسي و ما إلى ذلك معياره في ذلك الموضوعية و ليس اليقين بالمعنى العلمي ) .

-    تسعى المركزية العقلية إلى البحث عن التعالي و الغائية   ( المقصود بالغائية هو تصور الوجود في صيرورة متقدمة نحو غاية محددة وهي المثال ) و من خلال سعيها كذلك تعمد إلى ترويض و تدجين كل ما هو خارج عن المعيار ( فوكو) فتعتمد مبدأ التنظيم و البرمجة و محو الاختــلاف .و يطرح التفكيك مبدأ الاختلاف لمقاومة سطوة الهيمنة و الاحتواء .

-    تحاول الميتافيزيقا تذويب الدال من أجل المدلول فهي مسكونة بالمعنى و حبّ الامتلاء لذلك تعمد إلى تثبيتـه و تسميره حتىّ يصبح معنى خالدا في الزمان , لا قيمة للدال إلاّ من حيث هو حامل للمعنى.

و تلجأ الميتافيزيقا إلى الكتابة لإلغاء مفعول الزمان و النسيان فتروّض الآخر على تقديس المعنى و اعتباره حاضرا منجزا لا يقبل الشك و الارتياب . 

- يعتبر دريدا أن المركزية العقلية قائمة على تمركز صوتي أوّلي : Phonocentrisme و نعني بذلك إيثار الكلام على الكتابة لأنّ الحضور يطفو أكثر في مستوى الكلام ( المتكلــــم و السامع يكونان في نفس المقام و الحيّز الزمني ) في حين نجد أنّ الكتابة تعطي هامشا واسعا للغياب و المسكوت عنه بفعل عامل الزمن وبعد المسافة بين الكاتب و المتلقي إضافة إلى كون فعل الكتابة يظلّ يعمل حتّى بعد موت المؤلف عكس الكلام الذي هو فعل صوتي يتلاشى بمجرّد أن يختفي المتحدث ( لا بد ّ هنا من الإشارة إلى الفيلسوف اليوناني أفلاطون في إيثاره " للمحاورات" عن الكتابة و التدوين لأنّ الدال المرئي المحسوس يكبّل المعنى وبالتالي يسجن الحقيقة ) . فالكتابة تحاول مغالبة الزمن بتأبيد المعنى : Immortaliser       و حمايته من النسيان فهي الفعل الميتافيزيقي الذي يلغي النسيان و ينشد الحضور ، تحولّ التاريخ إلى حاضر يلاحقنا بقدسيته وتعاليه علينا و ما علينا إلاّ الخضوع لمنظومته التي أبّدها فعل الكتابة .و مع كلّ ما سبق ذكره يرى دريدا أننا لا نستطيع ممارسة التفكيك و الاختلاف إلاّ في الكتابة باعتبارها الإمكان الإجرائي الأمثل الذي يوفرّ

مرونة كبيرة ليست في متناول الكلام .( ننبّه هنا أنّ التفكيك لم يقتصر على التواصل اللساني فحسب بل يدعو إلى اكتساح كل الأنظمة العلامية المستخدمة في العصر الحديث ) .

-   من الانتقادات المهمة التي وجهها التفكيك للمركزية العقلانية تفصيل و تنظيم  الخطاب إلى أجناس كلّست الفكر البشري و أخضعته للمعيار ، فأقامت العقلانية مساحات و حدود بين أجناس كثيرة من الخطاب        ( الخطاب الأدبي ، الخطاب الفلسفي ، الخطاب السيـاسي ..) و هذا التنميط المؤسساتي قام أيضا على مبدأ الإقصاء و التهميش لما بإمكانه أن يكون خارجا عن النســـق و الجنس و المعيار . هكذا تحاول المركزية العقلية هيكلة ضروب الخطاب و تسمير الفكر و يمكن في مستوى الدولة الحديثة أن تعمل المؤسسات الثقافية على تطويع الفكر لمنظومة معرفية و رمزية في صالح الطبقة المهيمنة .

أرسى دريدا و فوكو كلّ دعائم الشكّ فيما سعت إليه الميتافيزيقا من تنظيم و تنسيق للخطاب بشكل تفاضلي تراتبي و سعى دريدا بخاصة إلى تذويب الفصل بين الخطاب الأدبي  و الخطاب الفلسفي معتبرا الفرق عائدا إلى إحدى آليات اللغة التي هي الاستعارة ، فالخطاب واحد و لكنّ الفرق في تقنيات استخدام الدال و تحويلاته .بيد أن عمل فوكو اتجه أكثر إلى الحفر في التاريخ عمّا هو هامشي عن التصنيف المألوف أو بعض المسميات الخاطئة لأشكال ثقافية من  العصور الوسطى و القديمة و ينتهي إلى تبديد كل ما نظمته الميتافيزيقا من أشكال ثقافية ليس السبب في مجرّد التصنيف بقدر ما هو فعل جائر قام على مبدأ التغييب و الإقصاء أو التطويع القسري للهامشي و الوحشي و غير المألوف .( بحث فوكو في تاريخ الجنون و أشكال العزل في السجون ..) وهي مسائل على هامش اهتمامات الحضارة المعاصرة.

الرجوع إلي الصفحة 1