حياة عباقرة العلم

يوحنا غوتنبرغ مخترع الطباعة

ينبغي علينا أن نركز جميعا لنستوعب الصورة القاتمة التي كان يعيشها  الإنسان نتيجة حرمانه من عدم إمكانية كسب كتاب أو مطالعته على النحو الذي نعيشه اليوم و يتوجب لمعرفة ذلك أن نعود إلى خمسة قرون مضت ولا يعني هذا أن الطباعة لم تكن معروفة قبل عصر "غوتنبرغ " فهي فن قديم عرفه البابليون والفراعنة والصينيون وكذلك عرب الأندلس غير أن إنتاج الكتب كان ضيق النطاق وكانت الطبعة في حدود بضع عشرات من نسخ في كل طبعة و كانت نادر ما تصل الطبعة إلى مائة نسخة و كانت الطريقة المستعملة تعتمد على نسخ أحرف الصفحة  وكانت هذه الطريقة تتسم بالبطء وعندما ظهر فن صناعة الورق في الأندلس في القرن الرابع عشر ميلادي كانت الكتب تنسخ باليد بواسطة الناسخين المحترفين في كميات قليلة وكان هؤلاء الناسخين يربحون أرباحا طائلة إذ أن الحكومات والأمراء كانوا يسخرونهم بصفة دائمة  كانت أسعار الكتب باهضة  توزع الكتب بين عدد محدود من المثقفين  وكانت الكتب كثيرا ما تتلف في تلك العصور الأولى  حتى أنه أصبح لا يوجد من الكتب القديمة إلا قليلا من النسخ في العالم كله  وقد أصبحت الكتب تطبع بكميات خيالية  وكانت عدد العناوين حوالي مليون عنوان  وكان اختراع الطبعة يعتبر أعظم  ثروة في تطور المعرفة على الإطلاق في العصور الوسطى من وجهة نظر العلم في مدينة (ماينز ) الألمانية ولد فيما بين1359-1399طفل اسمه (هانز غترفليش) من أبوين نبيلين غير ثريين وحدث لما كان (هانز) في صباه المبكر أن اختلف أبوه مع حاكم (ماينز) فاضطرت الأسرة للفرار إلى مدينة (استراسبورغ) تاركة وراءها ثروتها الضئيلة وفي هذه المدينة الغنية الحرة ولكي تمعن العائلة في التخفي اتخذت  اسم (غوتنبرغ) لهاو أصبح اسم (هانز غنرفليش) (يوحنا غوتنبرغ) والاسم الأخير هو نسبة إلى مكان الضيعة التي كانت تملكها العائلة ومعناه (الجبل الطيب)كانت أمه توافيه بالمعونة على شكل إيراد صغير مكن الشاب الذي لم يبلغ العشرين من عمره من القيام بعدة رحلات فطاف بشواطئ نهر الراين وسويسرا وشمال إيطاليا وهولندا ثم عاد إلى ألمانيا وبحث عن عمل فاشتغل صائغا يقطع الأحجار الثمينة

ويصنع منها الحلي كالعقود والخواتم ...وكان من عادة الناس في على الخواتم أسماءهم أو شارات تدل عليهم ليستعملوها كالأختام وقد أصبح يوحنا صائغا ماهرا بارعا فينقش هذه الفصوص. وذات يوم بينما كان خطرت له فكرة ينقش على الخواتم  ولم يكن هو نفسه يتنبأ بالمنزلة السامية التي ستبلغها فكرته فتساءل لماذا لا يحاول أن ينقش على لوح من الخشب صورة من الصور المقدسة ثم يضع عليها حبرا ثم يختمها على ورق فيرسم نسخا كثيرة دون أن يكرر النقش لكل صورة؟وأعجبته الفكرة وكان يعمل لتنفيذها بحماس بالغ ولم يلبث أن نفذها بعد أن كرر التجربة عدة مرات إلى أن طبع صورة من الصور الدينية المحبوبة فنسخ منها كمية ثم عرض واحدة منها على رجال الدين فأعجب بها إعجابا شديد وشجعه على المضي في اختراعه بشراء جميع الصور التي طبعها. فرح غوتنبرغ بما حصل عليه من أموال و سره أكثر أنه لم يتعب في رسمها غير مرة واحدة وبعد ذالك أخذ يفكر في تطويرها وفكر أن يقوم بتجربة جديدة لطبع كتاب من الكتب بتلك الطريقة وهو واثق تماما أن مثل هذا الإنجاز سيوفر له مالا كثير ويجعل الكتب متوفرة بأكثر عدد من النسخ  ظهر له أن الحروف التي ينقشها على الخشب بارزة و تظهر على الورق بعد الطبع مقلوبة وبدأ بنقش الحروف مقلوبة لتظهر على الورق في شكلها السليم فكر غوتنبرغ في طبع كتاب ديني وبدأ ينقش صفحاته على الخشب صفحة صفحة وكان يحبرها ثم يضع الورق عليها ثم يرفعه فإذا بالحروف قد انطبعت عليها بكل وضوح ولكنه لاحظ بعد أن قطع مرحلة هامة في العمل وأنه يبذل  جهدا كبيرا بلا فائدة حين ينقش الكتاب كله صفحة صفحة ورأى في هذه  الطريقة عملا شاقا وغير مجد و لا مربح ولم ييأس غوتنبرغ القدر أراد له أن يسلك طريق النجاح فاعتزل في منزله  وقام بقطع حروف منفصلة من الخشب و بعد أن أتم صنع أحرف هجائية ثانية و ثالثة وظل يكرر ذالك حتى تجمعت لديه كمية من هذه المجموعات ثم شرع في جمع بعضها إلى جانب بعض ليكوّن منها ما يشاء من الكلمات و الجمل ثم يضعها داخل إطار و يثبتها فيه . وهكذا أصبح لديه حروف تصلح  لطبع أي كلام في أي كتاب من غير أن يكرر الحفر على الخشب في كل مرة اعترضت غوتنبرغ  مشكلة تتمثل في عدم نجاح مادة اللوح كحروف إذ كثيرا ما يتشقق و يتكسر و ينسحق و استنادا إلى خبرته في صهر و صياغة الذهب فكر في اللجوء إلى حروف منفصلة مصنوعة من معدن خاص و لكن كيف يمكن له أ ن يحقق الخطوة التالية  وعندئذ فكر في البحث عن شركاء و في سنة 1483 اشترك مع رجل يدعى دريتنز و مع شخصين هما جان ريف و هايلمان و كان قد عمل مع هذين الرجلين  قبل بضع  سنوات في الصياغة و صقل المرايا . و قبلا  تمويل مشروعه دون أن يعلما بتفاصيله و الواقع أن غوتنبرغ كان يحيط نفسه بكتمان شديد و ظل يعمل على تحقيق ما كان يحلم به لاختراعه بكل حزم و صدق ولكن سرعان ما  أفضت هذه الشركة إلى نزاع قضائي إذ صادف إن توفي دريتزن فكان موته سببا في حل الشركة ،و قد تأثر ورثة المتوفي بالإشاعات التي راجت حول ذلك الاختراع الغامض الذي لم يستطيعوا  استيعاب أهميته و آفاقه . و انتهى الحال بحرمان غوتنبرغ بعد إدانته من حقه في الشركة و كانت  حيثيات الحكم تتضمن جهل القضاة لآثارالاختراع و أهميته . كان حرمان غوتنبرغ من نتائج جهوده المضنية طيلة سنوات سببا في تدمير مستقبله و طرده ظلما من ستراسبورغ  فعاد إلى مسقط رأسه في ماينز واختفى تماما و ظل فيما بين 1444و1448  محتجبا عن الناس إذ كان ينفرد بنفسه في بيته ولا أحد يدري ماذا يفعل غوتنبرغ في عزلته ؟  إلى أن قابل سنة 1450رجلا من طبقة البورجوازيين الأثرياء يدعى  فوست فقال له غوتنبرغ إنه بصدد اختراع أدوات تساعده على الطبع على الورق و كان فوست من رجال الأعمال المحنكين يعرف كيف يستثمر أمواله و رأى إمكان نجاح هذا الاختراع و تعهد أن يقرض غوتنبرغ مبلغ ثمانمائة  فلورين وهي العملة المستعملة في ذلك البلد  و اتخذ مقابل ذلك ضمانا على القرض  بأن يتعهد غوتنبرغ بأن تكون الأدوات رهنا لفوست و أن يعطيه فوق ذلك ثلاثمائة فلورين كحصة من الأرباح و هكذا تأسست أول مطبعة في التاريخ و في تلك الفترة تم طبع كتاب رسالة الرحمة التي أرسلها البابا نيقولاس الخامس إلى ملك قبرص جون الثاني و رغم ذلك لم يكتب للمشروع أن يزدهر  مما اضطر فوست إلى أن يمد غوتنبرغ  بثمانمائة فلورين أخرى لدعم المشروع . ثم طبع الإنجيل و كتاب المزامير  وبعض  المطبوعات الصغرى و قاموسا للمفردات باسم "كانوليكون" و هي  وهي كل ما طبع من كتب خلال الخمس سنوات التي عاشتها شركتهما و لسوء الحظ  لم توزع  من هذه  المطبوعات في تلك الفترة غير أعداد قليلة لم تمكن  من تسديد النفقات الضرورية ، وكان نتيجة لهذه الحالة أن ظلت ديون غوتنبرغ تتراكم لدى فوست ،الذي أدرك ببعد نظره أمكانية الاستحواذ على المطبعة ، وآل مصير الشركة إلى نزاع  قضائي في سنة 1455 و أوقع فوست بشريكه غوتنبرغ في الإفلاس و اضطر إلى الاستيلاء على آلات الطباعة و نقلها إلى محله حيث استغلها لحسابه بمساعدة شخص يدعى شوفر . و قد تمكن غوتنبرغ مرة أخرى من إعادة بناء مشروعه و كان آخر مشاريعه . و أنشأ مطبعة بنفس المواصفات التي كانت للمطبعة التي استحوذ عليها" فوست"وقام "غوتنبرغ" نفسه بطبع بعض الكتب ، ولم يتمكن المؤرخون و العلماء من كل عناوينها و أعدادها و كميات السحب التي تمت منها. وقد أصبح من المؤكد عند المؤرخين أنّ "غوتنبرغ" هو الذي طبع الإنجيل المعروف بإنجيل الاثنين و أربعين سطر و قد تم إجراء أبحاث دقيقة عن حروف المطبعة التي  استخدمت في طبع الكتب التي لم يعثر عليها فضلا عن كتب أخرى ضاعت ولم يبق لها أي أثر. وقد  دلت الأبحاث على أن " غوتنبرغ" ظل يمارس مهنة الطباعة في ماينز حتى سنة 1486. وهكذا استطاع يوحنا غوتنبرغ منذ خمسمائة سنة مضت أن يحقق فكرة اختراعه للمطبعة التي خطت بعد ذلك خطوات عملا قة  نحو التطور حتى أصبحت اليوم آلات الطباعة الحديثة تطبع مئات الآلاف من نسخ الكتاب الواحد في بضع ساعات وبذلك أتيح لكل فرد مهما كان مستواه المادي أن يحصل على الكتاب بأقل ثمن بعد أن كانت الكتب حكرا على الأثرياء  والأمراء . وبرغم من أن غوتنبرغ مات فقيرا، فإنه حقق للعالم المعاصر ثروة لا تقدر بمال ، فالفضل الأول يعود إلى اختراع أجهزته التي كانت سببا لذيوع العلم و تقدم الحضارة و انتشار المعرفة في كل مكان . ليس هناك أي صورة لغوتنبرغ ،أما الصورة التي تراها له أو التماثيل التي أقيمت تخليدا لذكراه فكلها من وحي الخيال  إن الرسامين في أيامه لم يروه جديرا بهذه المكانة لأنه نشأ فقيرا ومات فقيرا ولا أحد من هؤلاء كان يتوقع لاختراعه أن يصبح سببا في معظم الاختراعات  اللاحقة ووسيلة لها.

من كتيب حياة عباقرة العلم    تأليف :أحمد جغام

 إنجاز رحاب فرشيشي  سنة  6 أ السنة الدراسية 2006 - 2007

رجــوع                     الصفحة الرئيسية

إيدونات - شبكتي - المكتبة الإفتراضية - فضاء المكون - المدرسة الإفتراضية - فضاء المربي - حول الموقع